فصل: ومن النفس في الموجب والواجب.

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة



.الركن الرابع: النكول:

ولا يثبت الحق بمجرده، لكن ترد اليمين على المدعى إذا تم نكول المدعى عليه. ويتم نكوله بأن يقول: لا أحلف، أو أنا ناكل، أو يقول للمدعي: احلف، أو يتمادى على الامتناع من اليمين، فيحكم القاضي بنكوله. ثم حيث تم نكوله، ثم قال: أنا أحلف، ليم يقبل منه.
وينبغي أن يعرض القاضي اليمين على المطلوب ويشرح له حكم النكول. ثم المدعي إن نكل فنكوله كحلف المدعى عليه، وإن حلف استحق. ولو قال: أمهلوني، أمهل. وإن قال المدعى عليه: إن بيني وبينه حسابا، وسأل المهلة حتى يراجع حسابه، أمهل اليومين والثلاثة، بعد إقامة كفيل بوجهه.
وقال محمد بن عبد الحكم: يمهل على قدر ما يرى من ذلك.

.الركن الخامس: البينة.

وقد ذكرت شروطها وصفاتها في الشهادات. والمقصود ههنا النظر في تعارض البينتين، ومهما أمكن الجمع بينهما جمع، وإن تناقضتا وأمكن الترجيح رجعنا إليه، وإن استوتا تساقطتا وبقي المدعي في يد من هو في يده مع يمينه إن كان من المتداعيين. واختلف إذا كان من غيرهما، فقيل: يبقى في يده، وقيل: يقسم بين مقيمي البينتين لأنههما قد اتفقا على إسقاط ملك الحائز. وروى مطرف وابن الماجشون أنه يقضي بأكثرهما عددًا عند التكافؤ في العدالة، إلا أن يكون هؤلاء كثيرًا يكتفي بهم فيما يلتمس من الاستظهار، والآخرون أكثر جدًا، فههنا لا تراعى الكثرة.
ولو أقر من هو في يده لأحدهما لتنزل إقراره منزلة اليد للمقر له حتى ترجح البينة. ولو كان في أيديهما جميعًا لقسم بينهما بعد أيمانهما.
فرع:
حيث قلنا: يقسم بينهما، فإن لم يكن في أيديهما قسم على قدر الدعاوي، وإن كان في أيديهما، فاختلف أصحابنا على وجهين.
أحدهما: أنه يقسم بينهما على قدر الدعاوي أيضًا، كما لو كان خارجًا عن أيديهما.
والآخر: أنهما لا يتفاضلان بمجرد تفاضل الدعاوي، إذ سبب الاستحقاق بعد تساقط البينتين الحيازة وهما فيها سيان، بل يقسم بينهما نصفين لتساويهما فيها، إلا أن يسلم أحدهما للآخر بعد حيازته. وكذلك لو كانوا جماعة لقسم بينهم على عدد رؤوسهم، إلا أن يسلم أحدهم بعض ما تخص حيازته.
فرع مرتب: إ1ا قلنا بأن القسمة على قد الدعاوي إما تفريعًا على القول بذلك مطلقًا وإما لأن المدعى خارج عن أيدي المتداعيين. فقد اختلف في كيفية ذلك. فروى ابن حبيب عن مالك: أن المدعى به يقسم جميعه على قدر الدعاوي، وإن اختلفت الحصص المدعى بها كعول الفرائض. وبه قال مطرف وابن كنانة وابن وهب وأشهب وأصبغ.
وقال ابن القاسم وابن الماجشون: إن اختلفت الدعوى فإنما يقسم ما اشتركوا في الدعوى فيه، فيقسم بينهم على السواء، أما ما اختص بالدعوى به بعضهم فلا يقاسمه فيه من اختص عنه بدعواه.
ثم اختلف في اعتبار الاختصاص على طريقتين، يأتي بيان كل طريق منهما وفائدته في أثناء التمثيل، وذلك في صورتين.
مثال الصورة الأولى: إذا تداعى رجلان في شيء، فادعى أحدهما جميعه، وادعى الآخر نصفه، وأقاما بينتين متكافئتين، فعلى قول مالك ومن وافقه عليه: يقسم المدعى بينهما على ثلاثة أسهم، لمدعي الكل سهمان، ولمدعي النصف سهم واحد. وعلى قول ابن القاسم وابن الماجشون: يقسم بينهما على أربعة أسهم، لمدعي الكل ثلاثة أسهم، ولمدعي النصف سهم واحد، لأن مدعي النصف قد سلم لمدعي الكل النصف، وبقي النزاع بينهما في النصف الآخر فيقسم بينهما نصفين.
ومثلا الصورة الثانية: إذا كانوا ثلاثة وادعى أحدهم الجميع، وادعى الآخر النصف وادعى الثالث الثلث، فعلى قول مالك: يقسم بينهم على أحد عشر سهمًا، لمدعي الكل ستة أسهم، ولمدعي النصف ثلاثة، ولمدعي الثلث سهمان، وذلك على ما تقدم من التشبيه بعول الفرائض.
وعلى قول ابن القاسم وابن الماجشون: تنقسم من اثني عشر، وتصح من ستة وثلاثين على إحدى الطريقتين.
وبيان ذلك: أن مدعي الكل قد سلم له النصف على هذا الطريق إذ لا ينازعه فيه أحد من صاحبيه، وسلم مدعي الثلث السدس، وهو الثلث من النصف الآخر وهو متنازع فيه بين مدعي الكل ومدعي النصف فيقتسمانه بينهما نصفين، ويبقى الثلث يقتسمونه كلهم، فيخص مدعي الكل النصف ستة أسهم، ونصف السدس سهم، وثلث الثلث سهم وثلث، تكون الجملة ثمانية أسهم وثلث سهم، ويخص مدعي النصف نصف السدس سهم وثلث، الثلث سهم وثلث تكون الجملة سهمين وثلث سهم، ولا يخص مدعي الثلث سوى ثلث سهم، فيضرب أصل المسألة في مخرج الكسر تبلغ ستة وثلاثين كما تقدم.
وأما على الطريق الثاني، فتقسم من أربعة وعشرين سهماً، ومنها تصح، وبيان ذلك أن مدعي الكل إنما سلم له على هذا الطريق السدس لا غير، إذ لا ينازع فيه بوجه، وذلك أربعة أسهم من أربعة وعشرين سهمًا تبقى عشرون، مدعي الكل يدعيها وصاحباه يدعيانها، فتقسم بينه وبينهما نصفين، له نصفها عشرة أسهم يصير له أربعة عشر سهمًا، وتبقى لهما عشرة أسهم، مدعي الثلث يسلم منها سهمين، لزيادتهما على الثلث، يأخذهما مدعي النصف، ثم يقتسمان الثلث الباقي بينهما نصفين، فيحصل لمدعي النصف ستة أسهم، ولمدعي الثلث أربعة، فهذا فرق بين الطريقتين وثمرته.
أما إذا وجد الترجيح فمداركه أربعة:
المدرك الأول: زيادة المزية في العدالة دون زيادة العدد، على الرواية المشهورة.
المدرك الثاني: قوة الحجة، قال أشهب: يقدم الشاهدان على الشاهد واليمين، وعلى الشاهد والمرأتين، إن استووا في العدالة.
وقال ابن القاسم: لا يقدمان. قال: ولو كان الشاهد أعدل من كل واحد منهما لحكم به مع اليمين، وقدم على الشاهدين. وفي العتبية من رواية أصبغ عنه تقديم الشاهدين. وأخذ أصبغ بقوله الأول.
وقال مطرف وابن الماجشون: لا يقدم، وإن كان أعدل أهل زمانه.
ولو اقترنت اليد بالحجة الضعيفة لم تعتبر اليد، وقد بينا أن زيادة العدد في الشهادة لا تؤثر في الترجيح، على مشهور العدالة بخلاف الرواية.
فرع:
إذا قدمنا الأعدل، فلو كانت البينة من الجانبين مقبولة بالتعديل، فهل ينظر إلى كون المعدلين في أحد الجانبين أظهر عدالة، أو أعرف بوجوهها من المعدلين في الجانب الآخر أم لا؟ لم يعتبر ذلك ابن القاسم وابن الماجشون، واعتبره مطرف، وروى نحوه.
المدرك الثالث: اليد، فتقدم بينة الداخل على بينة الخارج، عند التكافؤ، مع يمينه على الرواية المشهورة لو ترجحت بينة الخارج لقدمت مع يمينه على الخلاف أيضًا.
وذهب عبد الملك إلى أن الحائز لا ينتفع ببينته، وأن بينة المدعي أولى لتخصيص البينة به في الحديث.
فرعان:
الفرع الأول: إذا قامت البينة على الداخل فادعى الشراء من المدعي، أو ثبت الدين، فادعى الإبراء، فإن كانت البينة حاضرة سمعت قبل إزالة اليد وتوفية الدين، وإن كانت غائبة غيبة قريبة أمهل ليأتي بها، وإن كانت بعيدة طولب في الوقت بالتسليم، ثم إذا أقام البينة استرد.
الفرع الثاني:
من أقر لغيره بملك، ثم عاد إلى الدعوى لم تقبل منه دعواه حتى يدعي تلقي الملك من المقر له.
المدرك الرابع: استمال إحدى البينتين على زيادة تاريخ أو سبب ملك. فإذا شهدت بينة أنه ملكه منذ سنة والأخرى منذ أكثر من ذلك قدم السابق. وإن كانت إحداهما مطلقة والأخرى مؤرخة، قدمت المؤرخة على المطلقة. وحكى أبو الحسن اللخمي فيها خلافًا.
ولو كانت إحداهما مطلقة والأخرى مضافة إلى سبب من نتاج أو زراعة أو غيره لقدمت المضاف إلى السبب.
فروع:
الفرع الأول: لو شهدت البينة بملكه بالأمس، ولم تتعرض للحال، لم تسمع حتى يقول في الشهادة: إنه لم يخرج عن ملكه في علمهم. ولو شهدت أنه أقر له بالأمس ثبت الإقرار ويستصحب موجبه.
ولو قال المدعى عليه: كان ملكك بالأمس، نزع من يده، لأنه يخبر عن تحقيق فيستصحب. كما لوا قال الشاهد: هو ملكه بالأمس، أو اشتراه من المدعى عليه بالأمس.
ولو شهد على أنه كان في يد المدعي بالأمس لم يأخذه بذلك حتى تشهد البينة أنه ملكه. ولو شهدوا أنه انتزعه منه أو غصبه أو غلبه عليه هذا، فالشهادة على هذا جائزة، ويجعل المدعي صاحب اليد.
الفرع الثاني:
لو شهدت بينة أحدهما بالملك وبينة الآخر بالحوز، قضي لمن شهد له بالملك، ولو كان تاريخ الحوز متقدمًا.
الفرع الثالث:
إذا ادعى ملكًا مطلقاً، فذكر الشاهد الملك والسبب لم يضر.
الفرع الرابع:
ابن مسلم وآخر نصراني، ادعى المسلم أن أباه أسلم ثم فالقول قول النصراني، والمقدمة بينة المسلم إن تعارضتا لأن الناقلة أولى من المستصحبة. وكذلك لو ادعى الابن الإرث في دار، وادعت زوجة أبيه أن أباه أصدها إياها أو باعها لها قدمت بينتها.
ولو شهدت بينة النصراني أنه نطق بالتنصير ومات عقيب ذلك، فهما متعارضتان. ولو كان الميت مجهول الدين، فادعى كل واحد أنه ما مات على دينه، فلا ترجيح لبينة المسلم. وقيل: ترجح. وإن لم تكن بينة، فليست دعوى أحدهما بأولى من دعوى الآخر بالتصديق، فيجعل كأن المال في أيديهما فيقسم بينهما. ولو كان في يد أحدهما لم يخص في التصديق بعد إقراره بأنه من جهة الإرث. ولو كان عوض الاثنين جماعة واختلفت الدعوة منهم وقلنا بالقسم بينهم، قسم المال عليهم نصفين وإن تفاوتت أعدادهم، بل لو كان في إحدى الجهتين جماعة وفي الأخرى واحد، لكان لهم النصف وله النصف، لأن استحقاق من في إحدى الجهتين كاستحقاق من في الجهة الأخرى على حد سواء. فإن كان مع الولدين المتداعيين في دين أبيهما طفل، فقال سحنون: يحلفان ويوقف ثلث ما بيد كل واحد منهما حتى يكبر الصغير فيدعي دعوى أحدهما فيأخذ ما أوقف من سهمه، ويرد إلى الآخر ما أوقف له من سهمه.
وقال أصبغ في العتبية: كلامها مقر للصغير، فله لنصف، ويجبر على الإسلام، ولهذين جميعًا النصف بينهما. قال سحنون: فإن مات قبل أن يبلغ حلفًا واقتسما ميراثه، وإن مات أحدهما قبل بلوغه وله ورثة يعرفون فهم أحق بميراثه وإلا ترك، فإذا كبر الصبي وادعاه كان له.
الفرع الخامس: إذا مات النصراني في رمضان، وادعى أحد ابنيه أنه أسلم في شوال فيرثه، وقال الآخر: له بل أسلمت في شعبان فلا ترثه، فبينة النصراني أولى لأنها ناقلة، والقول قول المسلم إذا لم تكن بينة، لأن الأصل بقاء الكفر.
ولو اتفقا على أن أباهما مات مسلمًا وأن أحدهما كان حينئذ مسلمًا، وادعى الآخر أنه كان أيضًا مسلمًا قبل موت أبيه وناكره أخوه في ذلك فعلى المدعي البينة، لإنكار أخيه ما ادعاه من تغيير الأصل، ويرث المتفق على إسلامه والله أعلم.

.كتاب الجراح:

الدماء خطيرة القدر في الدين، عظيمة الحرمة عند الله تعالى، وأدلة الشريعة من الكتاب والسنة والإجماع مطابقة على أن القتل كبيرة فاحشة موجبة للعقوبة في الدنيا والآخرة.
وموجباتها في الدنيا خمسة: القصاص، والدية، والكفارة، والتعزير، والقيمة.

.والنظر في القصاص في النفوس والأطراف.

.ومن النفس في الموجب والواجب.

.والموجب للقصاص:

له ثلاثة أركان:

.الركن الأول: القتل.

وهو كل فعل عمد محض عدوان من حيث كونه مزهقًا للروح.
والنظر في أطراف:

.(الطرف) الأول: في العمد المحض:

والخطأ: ما لا قصد فيه إلى الفعل، كما لو سقط على غير فقتله، أو ما لا قصد فيه إلى الشخص، كما لو رمى إلى صيد فأصاب إنسانًا. والعمد: ما خلف الخطأ، وهو الذي قصد به إتلاف نفس الشخص، وكان ما قصد به مما يقتل مثله من محدد أو مثقل، أو بإصابة المقاتل كعصر الأنثيين، وشدة الضغط، أو بأن يهدم عليه بيتًا، أو يضربه بحجر عظيم، أو بخشبة لها حد أو لا حد لها، أو يصرعه، أو يجر برجله على غير اللعب، أو يغرقه في الماء أو يحرقه بالنار، أو يخنقه، أو يطبق عليه بيتًا، أو يمنعه الطعام والشراب حتى يموت جوعًا. فأما إن لطمه أو وكزه فمات، فيتخرج على الروايتين في نفس شبه العمد وإثباته، فعلى رواية النفي هو عمد يجب فيه القصاص وهو مذهب الكتاب. وعلى الرواية الأخرى في إثباته يكون الواجب فيه الدية دون القود ولو قتله بالسحر واعتراف بذلك لقتل.

.الطرف الثاني: في بيان المزهق:

وهو نوعان، تسبب ومباشرة.
فالتسبب كحفر البئر حيث لا يؤذن له فيه، قصد الإهلاك به، وكالإكراه وشهادة الزور في القصاص على إحدى الروايتين، وتقديم الطعام المسموم إلى الضيق، وحفر بئر في الدهليز وتغطية رأسه عند دخول الداخل، وكذلك لو حفره ليقع فيه لص فوقع فيه فهلك.
وأما المباشرة فما يقتضي الموت، إما بغير واسطة كحز الرقبة، وإما بواسطة كالجراحات المقتضية للموت، أو ما يقوم مقامها في اقتضائه كالخنق والرض والتحريق والتغريق وشبه ذلك.

.الطرف الثالث: في اجتماع السبب مع المباشرة:

وذلك على مراتب.
الأولى: أن يغلب السبب على المباشرة، وذلك ظاهر إذا لم تكن المباشرة عدوانًا، كمن حفر بئراً على طريق رجل أعمى، وليس فيها غيره ولا طريق أخرى له، فوقع فيها فمات، أو طرح رجلاً مع سبع في مكان ضيق، أو أمسكه على ثعبان مهلك، أو فعل ما قدمناه من تقديم الطعام المسموم، أو تغطية رأس البئر. واتفقت الرواية على تغليب السبب أيضًا في شهود القصاص إذا رجعوا بعد الاستيفاء، واختلف هل تأثيره في إيجاب القود أو العقل على روايتي أشهب وابن القاسم، هذا إذا كان الولي غير عالم بتزوير البينة، فأما لو علم بذلك وبأن الحاكم علم بذلك وحكم مع علمه بتزويرهم لكان الولي معهم كالشريك لاعتدال السبب والمباشرة ولحقت هذه الصورة بالمرتبة الثالثة.
وقال مالك فيمن حفر بئرًا للص ليهلك فيها فهلك فيها، أو حفرها في طريق المسلمين، أو وضع فيها سفًا أو سكينًا أو شيئا يطلب به هلاكهم فهلك فيها أحدهم: فإنه يقتل به.
قال البغداديون: من أصحابنا: أو طرح قشور البطيخ في طريق المسلمين قصدًا لإهلاكهم فهلك بها بعضهم، فإنه يقتل به.
قال بعض الأصحاب: ولو كان إنما فعل حيث يجوز له فعله، أو لم يقصد بذلك أذية أحد، لم يجب عليه قصاص.
فأما قول مالك في المجموعة وكتاب محمد فيمن حفر بئراً على الطريقين أو ربط فيها دابة مما لا يجوز له: إنه ضامن لما أصاب في ذلك، وجعله فيه الدية دون القصاص، فلأنه لم يفعله لقتل أحد.
وكذلك قوله: لو حفر بئرًا أو سربًا للماء، مما يعمل مثله للماء، في أرضه أو داره، فعطب به إنسان فمات فلا يضمن، إنما قال ذلك لأنه فعله في ملكه.
وكذلك رواية ابن وهب عن مالك فيمن حدد قصبًا أو عيدانًا فجعلها في باب الجنان والثغرة لتدخل في رجل الداخل إلى حائطه، من سارق أو غيره، إنه يضمن ما أصاب فيه، فجعل فيه الدية دون القود، لأنه فعله في ملكه. وكذلك قوله: لو اتخذ فيه كلبًا عقوراً لكان ضامنًا لما أصاب.
وكذلك قول أشهب فيمن احتفر بئراً في داره أو أرضه ليسقط فيها إما سارق أو طارق، أو عدو، فإنه يضمن من أصيب فيه من هؤلاء وغيرهم. قال: وكذلك من جعل على حائطه شركًا، أو تحت عتبته مسامير ليصيب فيها من دخل، فهو ضامن لما أصاب بذلك.
وإلى ما ذكرناه أشار الأستاذ أبو بكر فقال عقب ذكره لهذه المسائل: ليس هذا بخلاف لما تقدم من كلام العراقيين لأنه دائر بين من عمل ذلك في محله، وبين من لم يعمل في محله، ولا قصد قتل إنسان.
واختلف في الإشارة بالسيف، فقال محمد: من أشار على رجل بالسيف وكانت بينهما عداوة فتمادى بالإشارة عليه وهو يهرب منه فطلبه حتى مات، فعليه القصاص. قال: وإن مات مكانه من أو إشارة فالدية على عاقلته.
وقال ابن القاسم فيمن طلب رجلا بالسيف ليضربه، فما زال يجري حتى سقط فمات، فليقسم ولائه لمات خوفًا منه ويقتلونه، قال ابن القاسم: ولو أشار عليه بالسيف فقط فمات وبينهما عداوة فهذا من الخطأ.
وقال ابن الماجشون فيمن طلب رجلاً بالسيف فعثر المطلوب فمات، ففيه القصاص، وقاله المغيرة وابن القاسم وأصبغ.
وقال أحمد بن ميسر: لا قصاص في هؤلاء.
واستحسنه طائفة من شيوخ القرويين، وقالوا: لا قصاص في هذا الأصل، اعني المشير بالسيف والجاري خلفه قالوا: إذ لا يدري هل مات من شدة الخوف أو من شدة الجري أو من مجموعهما، ولا وجد تعمد القتل، قال: ولا يمكن إثبات القصاص على نفي شبه العمد وثبوت القصاص في ذلك الأصل.
وقال أصبغ: ومن طرح على رجل حية مسمومة على غير وجه اللعب، مثل هؤلاء الحواة الذين يعرفون الحيات المسمومة والأفاعي التي لا يلبث لديها فإنه يقتل به، ولا يقبل قوله: أردت اللعب، وإنما معنى اللعب مثل ما يفعل الشباب بعضهم مع بعض، فيطرح أحدهم على الآخر الحية الصغيرة التي لا تعرف بمثل هذا، فهذا خطأ. فأما من يعرف ما هي ويتعمد طرحها، فإنه يقتل، ولا يقبل قوله: لم أرد قتله.
المرتبة الثانية: أن يصير السبب مغلوبًا بالمباشرة، كمن حفر بئرًا في داره لمنفعة نفسه لا يهلك فيها أحد، فوقف عليها رجل فرداه فيها غير الحافر، فالقود على المردي ولا شيء على الحافر تغليبًا للمباشرة.
المرتبة الثالثة: أن يعتدل السبب والمباشرة، فيجب القصاص على المسبب والمباشر جميعًا، كالإكراه على القتل، فإذا قتل المكره المستضعف قتل هو ومن أكرهه. ويلحق بالإكراه أمر من لا تتهيأ مخالفته من الأمرين مثل السيد يأمر عبده، والسلطان يأمر أحدًا من الناس، أو من لا يقدر المأمور على مخالفته ويخاف من شره، فأما أمر الأب ولده، أو المعلم بعض صبيانه، أو الصانع بعض متعلميه، فإن كان المأمور محتلمًا قتل وحده دون آمره، وإن كان لم يحتلم فالقتل على الآمر، وعلى عاقله الصبي نصف الدية.
وقال ابن نافع: لا تقتل الأب ولا السيد إذا أمر عبده، وإن كان أعجميًا بقتل إنسان. قال ابن حبيب: وبقول ابن القاسم أقول إن القتل عليهما.
فأما أمر من لا خوف على المأمور في مخالفته فإنه لا يلحق بالإكراه، فليقتل المأمور دون الآمر، ويضرب الآمر ويحبس.
وكالإمساك للقتل، فإذا أمسك على القاتل للقتل فالقصاص عليهما للاعتدال.
وشرط القاضي أبو عبد الله بن هارون البصري من أصحابنا في وجوب القاص على الممسك شرطًا آخر، وهو أن يعلم أنه لولا الممسك لم يقدر على ذلك.
وكالحافر عدوانًا مع المردي، كمن حفر بئرًا ليقع فيها رجل فيهلك، فجاء ذلك الرجل فوقف على شفير البئر فراده غير الحافر فيها، فإن القاضي أبا الحسن قال: يقتلان جميعًا للاعتدال، وقال القاضي أبو عبد الله بن هارون: يقتل المردي دون الحافر تغليبًا للمباشرة، فعدها من المرتبة الثانية. وكشهود القصاص مع الولي المباشر للقتل، كما سبق بيانه.

.الطرف الرابع: في طريان المباشرة على المباشرة:

والحكم تقديم الأقوى، فلو جرح الأول وحز الثاني الرقبة، فالقود على الثاني. ولو أنفذ الأول المقاتل ثم أجهز عليه آخر، فالقصاص على الأول خاصة بغير قسامة، ويبالغ في عقوبة الثاني، قاله ابن القاسم وأشهب. قال ابن القاسم: وقد أتى عظيمًا.
وروى أبو زيد عن ابن القاسم: أنه إنما يقتل المجهز وإن كان لا يحيا من ذلك، ويعاقب الأول.
ولو اجتمع جماعة على رجل يضربونه، فقطع رجل يده، وفقأ آخر عينه، وجدع آخر أنفه، وقتله آخر، وقد اجتمعوا على قتله فمات مكانه، قتلوا به كلهم، وإن كان جرح بعضهم أنكأ من جرح بعض.
ولا قصاص له في الجراح ما لم يتعمدوا المثلة مع القتل. وإن لم يريدوا قتله اقتص من كل واحد بجرحه، وقتل قاتله.
ومن قتل مريضًا مشرفًا وجب عليه القود. فإن قيل: ظن الإباحة هل يكون دارئًا للقصاص؟ قلنا: من قتل رجلاً في دار الحرب على زي أهل الشرك فإذا هو مسلم فلا قصاص، وتجب الكفارة والدية. قال محمد: من قتل رجلاً عمدًا يظنه غيره ممن لو قتله لم يكن فيه قصاص، فهو من الخطأ، لا قصاص فيه.

.الركن الثاني: القتيل.

وشرط كونه مضمونًا بالقصاص أن يكون معصومًا، والعصمة بالإسلام، والجزية والأمان ينزلان منزلته، والحربي مهدور، والمرتد كذلك. قال سحنون: لا قصاص ولا دية على قاتل المرتد، إلا الأدب في افتياته على الإمام وقاله أشهب. وكذلك من قتل زنديقًا أو زانيًا محصنًا، أو قطع سارقًا قد توجه عليه القطع، لأن هذه حقوق، لابد أن تقام، ولا تخيير فيها ولا عفو.
فأما من عليه القصاص فمعصوم في حق غير المستحق، فإن عدا عليه أجنبي فقتله، فدمه لأولياء المقتول الأول، ويقال لأولياء المقتول آخرًا: أرضوا أولياء الأول وشأنكم بقاتل وليكم في القتل والعفو، فإن لم يرضوهم فلأولياء الأول قتله أو العفو عنه، ولهم أن لا يرضوا بما بذل لهم من الدية أو أكثر منها.
وروى ابن عبد الحكم في المختصر: أنه لا دية لأولياء المقتول أولاً ولا قود، لأنه قد ذهب حقه، بمنزلة ما لو مات القاتل. قال عبد الله: والأول أعجب إلينا.
ولو كان القتل الثاني خطأ لكان الخلاف في الدية كالخلاف في القود. والعين واليد بمنزلة النفس في ذلك.
فأما من فقأ عين رجل ففقأ آخر عين الفاقئ ثم مات الفاقئ الثاني فلا شيء للمفقوء الأول. ومن قطع يد رجل من المنكب، ثم قطعت يد القاطع من الكف، فالأول مخير إن شاء قطع كف قاطع قاطعه، وإن شاء قطع من المنكب بقية يد قاطعه. ولو قتل زيد عمراً عمدًا، فحبس زيد للقتل، ففقأت رجل عينه أو جرحه في السجن عمدًا أو خطأ، فله القود في العمد، والعقل في الخطأ، وله العفو في عمده، ولا شيء لولاة المقتول في ذلك كله، وإنما لهم سلطان على من أذهب نفسه.
وكذلك لو أسلم إليهم للقتل، فقطع رجل يده قبل أن يقتلوه، فله القود بها، ويقتل هو بما قتل. فإنه كان ولي الدم هو القاطع، ففي المجموعة من رواية ابن القاسم وأشهب: أنه يقتص له منه. وروى أصبغ في الواضحة عن ابن القاسم: لا يقاد من أولياء الدم، لا، النفس كانت لهم، وليعاقبهم الإمام.

.الركن الثالث: القاتل.

وشرطه أن يكون ملتزمًا للأحكام، فلا قصاص على الصبي والمجنون والحربي. ويجب على الذمي والسكران.
ووراء هذا خصال يتصدى النظر فيها، يفضل القاتل بها القتيل.
وهي ست:

.الخصلة الأولى: الدين:

فلا يقتل مسلم بكافر قصاصًا، ويقتل الكافر بالمسلم والكافر، ويقتل كل واحد من اليهودي والنصراني والمجوسي بالآخر، وبالجملة فكل من لا يقتص له من مسلم لنقصه عنه في الدين فيقتص لبعضهم من بعض وإن اختلفت مللهم وأحاكمهم.

.الخصلة الثانية: الحرية:

فلا يقتل حر برقيق، ولا من بعضه رق، ولا بمن فيه عقد من عقود الحرية من مكاتب أو مدبر أو أم ولد أو معتق إلى أجل، كما لا تقطع يده بيد أحد منهم. ويقتل الرقيق بالحر إن اختار ذلك أولياؤه، وإن شاءوا استحياءه فلسيده فداؤه منهم بدية القتيل، وتقتل المستولدة والمكاتبة ومن فيه عقد من عقود الحرية بمن ليس هو كذلك من الرقيق. وكل من لا يقتص لهم من الحر لنقصان حريتهم بالرق فدماؤهم متكافئة، يقتص لبعضهم من بعض. وإن رجح بعضهم على بعض بعقد من عقود العتق، أو بحصول بعض الحرية، ولا يقتصر من العبد المسلم للحر الذمي، ويخير سيده في أن يفتكه بدينه أو يسلمه فيباع على أولياء القتيل. ويقتص للعبد المسلم منه عند ابن القاسم، في رواية محمد ويحيى بن يحيي وعبد الملك بن الحسن عنه، ورواه عبد الملك أيضًا عن أشهب. قال: وإن قال سيده: لا أريد قتله وآخذ قيمة عبدي فذلك له.
وقال سحنون: إنما عليه قيمته وهو كسلعة.
وقال محمد أيضًا: اختلف فيه قول ابن القاسم، فقال: يضرب ولا يقتل.
وقاله أصبغ.
قال ابن القاسم: وليس لسيده أن يعفو على الدية، وهو كالحر يقتل الحر فليس فيه إلا القتل، أو يصطلحان على شيء.
وقال أصبغ: لا عفو فيه إن كان على حد الحرابة والغيلة، وإلا ففيه العفو الصلح جائز، ويصير كالنصراني يقتل الحر المسلم على العداوة والنايرة، فلأوليائه العفو على الدية أو القتل. قال محمد: وأحب إلي أن يخير سيد العبد، فإن شاء قتل النصراني وإن شاء أخذ قيمة عبده منه، لأنه ماله أتلف عليه، وقاله أصبع.
فرع:
إذا صادف القتل تكافؤ الدماء من القاتل والمقتول لم يسقط القصاص بزواله بعد، كالكافرين يقتل أحدهما الآخر ثم يسلم فلا يسقط القصاص بذلك. وكالعبدين يعتق أحدهما بعد أن يقتل الآخر.

.الخصلة الثالثة: الأبوة:

وهي عند أشهب دارئه للقصاص على الإطلاق، فلا يقتل الأب بابنه عنده بحال. والمذهب أنها إنما تكون دارئة إذا كان القتل على وجه تثبت فيه الشبهة، وذلك إذا أمكن عدم القصد له، وادعى ذلك الأب، وإن كان غيره يقتل بمثل ذلك ولا تسمع دعواه، وهذا كمال لو حذفه بالسيف أو بغيره فقتله، ثم ادعى أنه لم يرد قتله وإنما أراد أدبه، لأن شفقة الأبوة شبهة منتصبة شاهدة بعدم القصد، ولو شركه غيره في هذه الصورة لقتل الغير، لان القتل عمد، وإنما سقط القود عن الأب لمعنى فيه لا لمعنى في القتل، ألا ترى أن مكره الأب على قتل ابنه يقتل، لأن فعله منقول إليه فأما لو فعل به ما تنتفي معه الشبهة ويظهر كذبه لو ادعى أنه لم يقصد القتل فإنهن يقتل به، وهذا كما إذا أضجعه فذبحه، أو شق جوفه، أو حز يده فقطعها، أو وضع أصبعه في عينه فأخرجها، فإنه يقتص منه في جميع ذلك. وكذلك لو اعترف بقصد القتل، وإن كان الاحتمال قائمًا، وهذا لأنه كشف الغطاء عن قصده فرتب الحكم عليه.
ثم حيث جعلناها دارئة. ففي معناها الجدودة، فكما لا يقتل الأبوان عند قيام الشبهة فكذلك لا يقتل الأجداد ولا الجدات من قبل الأب والأم من يرث منهم ومن لا يرث. وبهذا قال عبد الملك.
وقال ابن سحنون عن أبيه: اتفقوا على أنها تغلظ في الجد والجدة من قبل الأب واختلفوا في الجد والجدة من قبل الأم، فقال ابن القاسم: هما كالأم، وبه قال سحنون وقال أشهب: هما كالأجنبيين. ثم حيث لم تكن دارئة وأثبتنا القصاص بذلك إذا كان القائم بالدم غير ولد الأب مثل العصبة وما أشبه ذلك، قاله في كتاب محمد.

.الخصلة الرابعة: التفاوت في تأبد العصمة:

وذلك لا يعتبر، فيقتل الذمي بالمعاهد.

.الخصلة الخامسة: فضيلة الذكورة:

ولا تعتبر أيضًا، بل يقتل الرجل بالمرأة كما تقتل به.

.الخصلة السادسة: التفاوت في العدد:

ولا يؤثر أيضًا، بل تقتل الجماعة بالواحد، والواحد بالجماعة، إلا أن يكون القتل بالقسامة، فلا يقتل بها أكثر من واحد.
وشريك المخطئ أو الصبي أو المجنون عليه القصاص في أحد قولي ابن القاسم، وهو قول ابن الماجشون.
وقال ابن القاسم: وذلك بعد القسامة، مات القتيل قعصًا أو تأخر موته.
وقال ابن الماجشون: إن مات مكانه اقتص له بغير قسامة، وشركة من شركه من هؤلاء سبب لثبوت حظه من الدية.
وأما شريك السبع فقال فيه ابن القاسم مرة يقسم فيه على العمد، ومرة قال: على المتعمد نصف الدية في ماله بغير قسامة، ويضرب مائة ويحبس سنة.
فروع: إذا صدرت جراحتان من واحد، وإحداهما غير موجبة، للعقوبة لم تمنع القصاص كما لو جرح عمدًا وخطأ.
فأما إذا جرح نفسه عمدًا وجرحه غيره عمدًا، أو جرحه مسلم، وجرحه حربين أو جرحه آدمي وسبع، فالمسألة على قولين. ولو جرحه إنسان ثم ضربته دابة فمات فلا يدري من أي ذلك مات، فقال ابن القاسم: نصف الدية على عاقلة الجارح، قيل: أبقسامة؟ قال: وكيف يقسم في نصف درية، وقال أيضًا في المجموعة: إن فيه القسامة.
وقال: إذا جرح ثم مرض فمات ففيه القسامة وقال: إذا جرحه رجل ثم ضربته دابة أو وقع من فوق جدار فأصابته جراح أخر، ثم مات فلا يدري من أي ذلك مات، فلهم أن يقسموا لمات من جرح الجارح وهو كمرض المجروح بعد الجرح، قال محمد: ولو كان إنما طرحه إنسان من على ظهر بيت أقسموا على أيهما شاءوا على الجارح أو على الطارح وقتلوه وضرب الآخر مائة وحبس عامًا.
وقال مالك: إذا مرض المجروح فمات فليقسموا لمات من ضربه في الخطأ والعمد. وإذا تملأ جمع على واحد، وضربه كل واحد سوطًا فمات، وجب القصاص على الجميع.

.الفصل الأول: في تغيير الحال بين الرمي والجرح، وبين الجرح والموت:

ولنسرد الفروع ممتزجة متتالية، فنقول:
إذا تغير حال الرمي قبل إصابة السهم ثم أصابه، فالاعتبار عند ابن القاسم بحال الإصابة، وعند سحنون بحال الرمي، فلو رمي عبدًا ثم عتق ثم أصاب سهمه فقال سحنون: الجناية في رقبته اعتبارًا بحال الرمي.
قال الأستاذ: أبو بكر: ومن يعتبر حال الإصابة يجعل الدية على عاقلته. وعكس هذا لو رمي إلى عبد فعتق قبل الإصابة، فعلى الأصل الأول تجب دية حر، وعلى الأصل الثاني قيمة عبد. ولو رمى إلى عبد نفسه ثم أعتقه قبل إصابته، فعلى الأصل الأول الدية عليه، وعلى الأصل الثاني لا شيء عليه. ولو رمى إلى مرتد فأسلم أو حربي فأسلم ثم أصابه السهم فقتله أو جرحه، فقال سحنون: لا قصاص على الرامي لأنه رمى في وقت لا قود فيه ولا عقل. قال ابن سحنون: وعليه، في قول ابن القاسم، الدية إن مات حالة في ماله، وإن لم يمت فدية الجرح حالة في ماله، لأنه لو جرح وهو مرتد ثم نزى في جرحه فمات بعد أن أسلم، فإن ولاته يقسمون لمات منه، وتكون ديته في ماله ألا ترى أنه لو رمى صيدًا وهو حلال، فلم تصل إليه الرمية حتى أحرم ثم أصابته، فعليه جزاؤه.
قال الأستاذ أبو بكر: وأعلم أن الذي منه ألزم ابن سحنون لابن القاسم وجوب الدية في هذه الصورة أصل نذكره: وذلك أن ابن سحنون روى عن ابن القاسم في النصراني يسلم بعد أن جرح ثم يموت فيه دية حر مسلم في ماله حاله اعتباراً بما يؤول إليه أمره.
وقال أشهب إنما عليه دية نصراني لأني إنما انظر إلى الضربة في وقتها لا إلى الموت، ألا ترى لو أن مسلمًا قطع يد مسلم ثم ارتد المقطوع فمات مرتدًا أو قتل، أن القصاص قد ثبت على الجاني فتقطع يده بيده، وليس لورثته أن يقسموا على الجاني فيقتلوه، لأن الموت كان وهو مرتد.
قال الأستاذ: فيجئ من هذا إلزامنا لابن القاسم أن الاعتبار في مسائل الرمي بآخر الأمر، وهو الإصابة، فلو رمى مرتد، ثم أسلم، ثم أصاب سهمه رجلاً خطأ، فقال سحنون أنا وإن كنت أعتبر وقت الرمي فأقول في هذه: إن الدية على العاقلة وإن كان ليس من أهل العاقلة وقت الرمي إذ لا عاقلة للمرتد، فإنما أنظر إلى الدية يوم ترفض على العاقلة، وهنا لم يحكم فيها حتى أسلم، وله وقت الإسلام عاقلة، وذلك عليهم كالخطأ. قال: وقد قال أصحابنا: أجمع ابن القاسم وغيره إن جنى خطأ ثم أسلم أن عاقلته تحمل ذلك، فكذلك هذا عندهم.
قال ابن سحنون: وفي قوله الأول هي في ماله نظرًا إلى الجناية يوم وقعت لا يوم الحكم.
قال ابن سحنون: واختلف أصحابنا في دية هذا المرتد، أعني إذا جرح المرتد ثم نزا في جرحه فمات بعد أن أسلم، فمن أصحابنا من يقول: ديته دية من على الدين الذي ارتد إليه.
وقال ابن القاسم: ديته دية مسلم، وبه قال سحنون.
وكذلك لو كان المرمي إليه نصرانيًا فأسلم قبل وصول السهم إليه، أنه لا قصاص فيه، وفيه دية مسلم في قول ابن القاسم، وفي جرحه، إن لم يمت، دية جرح مسلم. وفي قول أشهب: دية نصراني. قال سحنون: وينبغي، على قوله، أن لو كان مرتدا فأسلم قبل وقوع السهم فيه، أنه لا قود على الرامي ولا دية، لأنه وقت الرمي مباح الدم. وقد قال سحنون في عبد رمى رجلاً ثم عتق قبل وصوله رميته:إن جنايته جناية عبد.
قال ابن سحنون: وقد قال أصحابنا أجمع في مسلم قطع يد نصراني ثم أسلم ثم مات: إنه لا قود على المسلم، فإن شاء أولياؤه أخذوا دية يده دية يد نصراني، وإن أحبوا أقسموا ولهم دية مسلم في مال الجاني حالة، في قول ابن القاسم وسحنون.
وقال أشهب: دية نصراني. لأني أنظر إلى وقت الضربة. وإن كانت الجناية خطأ ولم يقسم ورثته فلهم دية يد نصراني على عاقلة الجاني. وإذا أقسموا دية نصراني على عاقلة الجاني مؤجلة. وفي قول ابن القاسم وسحنون: دية مسلم على عاقلته.
ومما أجري على هذا الأصل أن رجلاً لو قطع يد عبد، ثم أعتقه سيده، ثم ارتد فسرى إلى النفس، ففي قول سحنون الأول: عليه لسيده ما نقضته الجناية. وعلى قوله الثاني: لا شيء على القاطع لأنه صار مباح الدم يوم مات.
وكذلك من رمى إلى قاتل أبيه ثم عفا عن القصاص قبل الإصابة، فعلى قول سحنون الأول، أيضًا، لا يجب عليه شيء اعتبار بحال الرمي. وعلى القول الثاني: يجب اعتبارًا بحال الإصابة.
وكذلك لو جنى مسلم على نصراني، فتمجس النصراني ثم سرى إلى النفس، أو جنى المسلم على مجوسي ثم تهود المجوسي ثم سرى الجرح إلى النفس، فعلى قول أشهب ديته: دية أهل المذهب الأول في المسألتين. وعلى القول الثاني: دية المذهب الذي انتقل إليه.
فأما مسلم جرح مسلمًا فارتد المجروح ثم سرى الجرح إلى النفس فأجمع الناس على أنه لا يقاد منه لأن صار إلى ما حل دمه فيه، والذمي لم يصر إلى ما يبيح دمه، وفروع هذا الأصل كثيرة، فلنقتصر على ما ذكرناه، فهو منبه على ما سواه.
الفرع الثاني:
القصاص في الطرف.
وهو في شرط القطع والقاطع والمقطوع كما ذكرنا في شروط القتل والقاتل والمقتول. قال الأستاذ: أبو بكر: وعقد الباب أن كل شخصين يجري بينهما القصاص في النفوس من الجانبين يجري في الأطراف. قال: فأما إذا كان أحدهما يقتص منه للآخر ولا يقتص للآخر منه في النفس، فقال مالك: لا يقتص في الأطراف، وإن كان يقتص منه في النفس، كالعبد يقتل الحر والكافر يقتل المسلم يقتلان. ولو قطع العبد أو الكافر الحر المسلم لم يكن له أن يقتص منهما في الأطراف في ظاهر المذهب.
قال محمد بن عبد الحكم: المسلم بالخيار، إن شاء أن يقتص أو يأخذ الدية. قال: وجعل أصحابنا هذه رواية مخرجة في العبد والكافر، فقالوا: للمسلم أن يقتص منهما، وخرجوا هذه الرواية من قول مالك في النصراني يفقأ عين المسلم. وروى ابن الحكم عن مالك قال: يجتهد السلطان في ذلك أيضًا.
قال أصحابنا: تحتمل هذه الرواية وجوب القود، قالوا: وهذا هو الصحيح. قال الأستاذ أبو بكر: وهو كما قالوا.
وفي العتبية من سماع أشهب أنه توقف فيه.
وقال ابن نافع: المسلم مخير إن شاء استقاد، وإن شاء أخذ العقل.
ولا يشترط في القصاص في الأطراف التساوي في البدل، وإن اشترط التساوي في المنفعة، بل تقطع يد الرجل بيد المرأة، ولا تقطع اليد السليمة بالشلاء لعدم التساوي في المنفعة لا لتفاوت البدل. ولا يشترط التساوي في العدد، بل تقطع الأيدي باليد الواحدة عند تحقق الاشتراك بأن يضعوا السكين على اليد ويتحاملوا كلهم عليها حتى تبين. فأما لو تميزت الجنايات بأن يقطع أحدهما بعضًا وبينهما الآخر، أو يضع أحدهما السكين من جانب ويضع الآخر السكين من الجانب الآخر حتى يلقيا، فلا قصاص على واحد منهما في جميع اليد، ولكن يقتص من كل واحد بمساحة ما جرح إذا عرف ذلك.
والجنايات ثلاث: جرح وإبانة طرف. وإزالة منفعة.
أما الجرح: ففي الموضحة، وهي التي توضح العظم من الرأس أو الجبهة، القصاص. وكذلك ما قبلها من الحارصة، وهي التي تشق الجلد. والدامية، وهي التي تسيل الدم. والسمحاق: وهي التي تكشط الجلد. والباضعة، وهي التي تبضع اللحم. والمتلاحمة: وهي التي تغوص في اللحم غوصًا بالغًا وتقطعه في عدة مواضع. والملطاة: وهي التي يبقى بينها وبين العظم ستر رقيق. ولا قصاص فيما بعد الموضحة من الهاشمة للعظم والمنقلة له على خلاف فيها خاصة. والآمة: وهي البالغة إلى أم الرأس، والدامغة الخارقة لخريطة الدماغ. وفي هاشمة الجسد القصاص إلا ما هو مخوف كالفخذ وشبهه. وأما هاشمة الرأس فقال ابن القاسم: لا قود فيها لأنها لابد تعود منقلة.
وقال أشهب: فيها القصاص، إلا أن تنتقل فتصير منقلة فلا قود فيها.
وأما الأطراف: فيجب القصاص في جميع المفاصل إلا المخوف منها، وفي معنى الفاصل أبعاض المارن والأذنين والذكر والأجفان والشفتين والشفرين، لأنها تقبل التقدير. وفي اللسان روايتان. والقصاص في كسر العظم إلا ما كان متلفًا كعظام الصدر والعنق والصلب والفخذ وشبهه.
وبالجملة فلا قصاص في شيء مما يعظم الخطر فيه كائنًا ما كان. ولو قطع اليد من المرفق لم يجز القطع من الكوع وأن رضي المقتص. وإن كسر عظم العضد ففيه القصاص. ولو قطع من المرفق وكانت يده مقطوعة من الكوع فطلب المجني عليه القطع من المرفق ففي وجوب إسعافه بذلك خلاف، أثبته ابن القاسم ونفاه أشهب.
وأما المعاني: فالسمع والبصر يجب القصاص فيهما بالسراية عند إضياح الرأس بأن يقتص منه في الموضحة، فإن ذهب سمعه وبصره فقد استوفى منه، إلا فعليه دية ما لم يذهب من ذلك في ماله عند ابن القاسم وأشهب.
وقال أشهب أيضًا: على عاقلته.
وكذلك لو سرت إلى ذهاب يد أو رجل، ولو كان ذهاب عينه مثلاً من لطمة أو غيرها مما لا قصاص فيه كالضربة بعصا من غير أن تدمي، فإن انخسفت عينه أقيد له من عينه فقط، وإن لم تنخسف فليس فيها إلا عقلها.

.الفصل الثاني: في المماثلة:

والتفاوت في ثلاثة:
الأول: تفاوت المحل والقدر. فلا تقطع اليمنى باليسرى، ولا السبابة بالوسطى، ولا إصبع زائدة بمثلها عند اختلاف المنبت.
والتفاوت في الموضحة يؤثر، أعني في سعتها لا في غوصها، فلو كان رأس الشاج أكبر لأخذ من رأسه مقدار طولها عند ابن القاسم.
وقال أشهب: يؤخذ من رأس الجاني ما نسبته إليها نسبته موضحة الجناية من رأس المجني عليه، واختاره محمد.
وإذا فرعنا على قول ابن القاسم، فكان رأس الشاج أصغر؛ استوعب رأسه، ولم يكمل بالقفا ولا بغيره ولو زاد الطبيب المقتص على ما استحق قصاصًا فذلك على عاقلته إن بلغ ثلث الدية، وعليه إن قصر عن ذلك.
التفاوت الثاني: في الصفات. ولا تقطع اليد الصحيحة بالشلاء، ولا تقطع الشلاء بالصحيحة وإن قنع بها، إلا أن يكون لها بها انتفاع ولا يضم إليها أرش، فأما عديمة الانتفاع بالكلية فلا.
وروى يحيي بن يحيي عن ابن القاسم: أن المجني عليه يتخير في قطع أشلاء أو تركها وأخذ عقل يده.
وقال في كتاب أسد: ليس له إلا العقل. وكذلك ذكر محمد عن مالك وابن القاسم وأشهب، وذكره عنهم ابن عبدوس. قال أشهب في الكتابين: إن كان شللاً يابسًا أو كثرًا أذهب أكثر منافع يده. وأما في الخفيف فله أن يقتص. والذكر المقطوع الحشفة، والحدقة العمياء، ولسان الأبكم كاليد الشلاء.
وإذا قلعت سن الرجل فردها فثبتت فإنه العقل في الخطأ، والقود في العمد عند ابن القاسم.
وقال أشهب والمغيرة: له القود في العمد، وليس له في الخطأ عقل. ووجه الفرق عندهما أن المعتبر في القود الجرح ساعة الجناية، وفي العقل الاعتبار بيوم النظر، فأما لو قلعت سنة فأخذ العقل، ثم نبتت لم يلزمه رده.
ولا تقلع سن البالغ بسن صبي لم يثغر، لأن سن الصبي فضلة في الأصل، وسن البالغ أصل. ولو عادت الموضحة ملتئمة لم يسقط القصاص.
التفاوت الثالث: في العدد. فإن كانت يد الجاني ناقصة بأصبع قطعت ولا شيء للمجني عليه سوى ذلك. وروي أن له دية الأصبع الناقصة.
وإن كانت ناقصة أكثر من إصبع، فقال مالك وابن القاسم: المجني عليه بالخيار في أن يأخذ العقل تامًا أو يقتص.
وقال ابن الماجشون وأشهب: ليس له أن يستفيد. قال ابن الماجشون: لأنه من وجه التعذيب.
وإذا فرعنا على الأول فاختار القصاص، فهل له أخذ دية ما نقص من الأصابع أم لا؟. قولان لابن القاسم من رواية عيسى ومحمد، ورويا أيضًا عن مالك.
وإن كانت يد المجني عليه هي الناقصة، فإن كان النقص أصبعًا واحدة، فقال مالك وابن القاسم: يقتص، كانت الإبهام أو غيرها، أخذ لها عقلاً أو قصاصًا أو غيره. واختلف في ذلك قول أشهب. قال محمد: والثابت عندنا من قول أشهب وروايته أن ليس له إلا القصاص.
وقال ابن الماجشون: حد ما لا يرفع القصاص في اليد والرجل من النقص أصبع واحدة، هذا أقصاه. قال: وزاد المغيرة على ذلك، وقول مالك أحوط. قال: إلا أن تكون الإبهام فلا قصاص. قال سحنون: في كتاب ابنه: وما علمت من فرق بين الإبهام وغيرها غيره.
وإن كانت ناقصة أصبعين، فقال محمد: لا قصاص له، لم يختلف في هذا قول مالك وأصحابه.
وأما العين الضعيفة فتؤخذ بها العين السليمة إذا كان الضعف من أصل الخلقة، أو من كبر. وأما إن كان نقصها من جدري أو كوكب أو قرحة أو رمية أو غيرها، أخذ فيها صاحبها عقلاً أو لم يأخذ، فلا قود فيها. وحمل عبد الملك هذا على ما كان نقصًا فاحشًا كثيرًا، قال: وأما النقص اليسير فله القصاص على كل حال.
وقال ابن القاسم في الكتاب: إذا أصيبت العين خطأ فأخذ لذلك عقل، وصاحبها ينظر بها، ثم أصيبت عمدًا ففيها القصاص.
وأما صحيح العينين إذا جنى على عين من ليس له إلا عين واحدة ففقأها عمدًا، فقال مالك: هو مخير إن شاء اقتص منه وإن شاء أخذ ديتها ألف دينار من ماله. وقد قال بأن ديتها ألف دينار الخلفاء الأربعة وابن عباس، وقال به سعيد بن المسيب وعروة وسليمان بن يسار وسليمان بن حبيب وعبد الملك بن مروان وابن شهاب وربيعة والليث بن سعد وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه.
وإن فقأ صاحب العين الواحدة عين ذي العينين التي مثلها له، فللصحيح الخيار في القود منها أو أخذ ألف دينار ما ترك له، ولا قول له إن أبى إلا القصاص، والخيار للمجني عليه. وكان مالك يقول قبل هذا: إن أحب الصحيح اقتص، وإن أحب أخذ دية عينه خمس مائة دينار. وكان يقول أيضًا: إما اقتص وإلا فلا شيء له. وبهذا قال أشهب، قال: إلا أن يصطلحوا على شيء فيلزم إلا أن يكون ما قيل من الألف دينار سنة فتتبع.
وإن فقأ صاحب العين الواحدة عين الصحيح المعدومة له فليس عليه إلا خمس مائة دينار، كأقطع اليمين يقطع يمين رجل.
وإن فقأ عيني صحيح فله القصاص من عينه ونصف الدية في العين الأخرى. قال أشهب: هذا إن فقأهما في فور واحد، وأما إن فقأ واحدة بعد أخرى، فإن بدأ بالمعدومة له فعليه خمس مائة دينار مع القصاص، وإن بدأ بالتي هي باقية له فعليه مع القصاص ألف دينار لأنها عين ليس لصاحبها سواها.